[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين تقوم "جدلية" بنشره.]
أنا مثل كل الأمهات، أغسل وأكنس وأشتري الخبز والخضروات، فيما أزاول مهنتي، لكنني نادراً ما أكتفي بما أنجزت. أسهر الليالي وأنحت ساعات النهار أشكالاً وألواناً وألحان رقص وأبيات شعر، أدنو من الأنهار والغابات وحدائق الأطفال بحثاً عن ابتسامة رضى، وأخاف خوفاً شديداً من سيمفونية الابتزاز الباكية.
لكنني لست مثل كل الأمهات، لأنني قررت ألا أنقل لأولادي عِرق الوجع.
أقرر في كل يوم أن أنسى الوطن. لا أترك نفسي لفيروز تبكيني، وتقلب معايير المنطق واتزان اليوم. أقرر ألا أصنع الشيش برك، أكلتي المفضلة التي تعلّمتْها جدتي القبرصية من جدة أمي في يافا، لأن صنع هذه الأكلة يحتل ساعات اليوم كلها.
أتكاسل عن زيارة غزة .... لأنني لا أريد أن يقضي أولادي يومهم في الظلام، ولأني أخشى انقطاع الماء في الحمام، ولأن الشارع لم يعد ملكاً للأطفال.
كان برد الشتاء قارصاً عندما وصلت إلى معبر رفح في آخر مرة، لم يكن خبر فتحه قد انتشر بعد، لكنه كان مكتظاَ بالعائلات الغزاوية التي كانت محتجزة في رفح في انتظار العودة. يومها تلقيت كدمة لن أنساها من إحدى السيدات المتدافعات على الدور، ومر ضابط الأمن المصري بين الصفوف يضرب بعصاه أقدام الواقفين منذ الرابعة فجراً، صارخاً: (مش حتتعلموا النظام يا غجر؟ يا حيوانات؟) ... (ما بالي أنا؟ إنه حتماً يقصد من لا يلتزم بالنظام) قُلت لنفسي..
في تلك اللحظات أيقنت أن أولاد العم قد هيَّأوا لي ولأمثالي من حاملي الجنسيات الأجنبية هذا الدرس الخصوصي الذي يمكن اختصاره في قاعدة واحدة فقط: اذهبي إلى حيث تسكنين! تذكري تراثك في احتفالات عيد الأرض المقيتة إن أردتِ، طرزي ثوباً يافاوياً لابنتك إن كان لديك الصبر، لكن...لا تعودي! وأنا فهمت الدرس وحفظته عن ظهر قلب. لم أعد بالفعل منذ عشر سنوات.
كبرت، وتزوجت، وأنجبت ولدين، وانتقلنا إلى بيت في الريف الألماني الهادئ، فماذا أقول لأولادي عن وطني؟ وطني مكان غير متوفر، لا يمكن الذهاب إليه، لا يمكن البقاء فيه... لم تعد بيارة البرتقال مكاناً للرحلات العائلية منذ غرقت تحت مجاري المستوطنات.. لم نعد نقضي الأيام والليالي على شط البحر خوفاً من البحرية الإسرائيلية ومن دوريات حماس ومن أعين الشباب اللزجة. غرق بيت عائلتنا الصغير بين العمارات الشاهقة في حي الرمال. توفت الست فايقة حلزونة وزوجها وتحولت روضتي لبيت سكني. هاجرت عائلة كوكو إلى أستراليا، وأم جاك لم تعد تأخذني إلى احتفالات بابا نويل في الكنيسة، وأصبحت طرحة جدتي عيباً، وقهوة الجارات ما بعد الظهيرة دون مناسبة غير لائقة.. كيف أشرح لأولادي هذا البلد وأنا لا أفهمه؟
لن أحكي لهم كيف خبأت أخي الصغير في الخزانة لأحميه من طلقات الاحتفال باغتيال السادات. من الأفضل ألا يسمعوا قصص القصف والملاجئ. لن أروي لهم عن رائحة الهواء المشبع بالدماء في بيروت. سأخجل أن أحكي لهم عن القمل وعن الخبز الحاف. لماذا أخيفهم بقصة خروجنا من بيروت ونجاتنا بأعجوبة على يد صحفيين أمريكيين؟
تمرضني فكرة كتمان وطني، وكأنه العار، وأنا أقلب المعكرونة للأولاد، إلى أن يصعد (سمسم) على الكرسي ليلقي نظرة فضولية في الوعاء ويقول: ممم، معكرونة بالبالستينا، ما أطيب طعامك يا ماما. أشرد لثوان لأتذكر أنني علمته في الحديقة كيف يقطف الزعتر بلطف، وكيف يبقى الزعتر صامداً تحت الأعشاب المتطاولة عليه، وجعلته يشم رائحته، وقلتُ له إنَّ الزعتر من فلسطين، من بالستينا، وإن ماما من بالستينا وإنني سآخذه يوماً إليها ليزور عائلتي، التي هي عائلته. قد أؤجل الوطن والوجع إلى إشعار آخر، وأُبقي فلسطين الآن في طعم الثوم والليمون وفي عبق الزعتر الأخضر.